القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار

نظرية تشومسكي اللغوية والإفادة من تطبيقاتها

نظرية تشومسكي اللغوية والإفادة من تطبيقاتها

نظرية تشومسكي اللغوية والإفادة من تطبيقاتها

مقدمة

أياً كانت الانتقادات التي وجهت إلى نظرية شومسكي في اللغة فإنها تبقى بحق نقطة تحول هامة جداً في تاريخ البحث اللغوي، بل ثورة على حد تعبير جون سيرل(1). لقد تجاوزت التصور البنيوي الوصفي الذي بدأ لها قاصراً عن حصر العدد اللامتناهي من الجمل التي يمكن إنشاؤها في لغة ما. إن أحد أركان هذه الثورة اللغوية الشومسكية هو الحديث عن طاقة هائلة خاصة بالإنسان وحده، تمكنه، بتأثير المثيرات الخارجية، من توليد جمل لا يمكن التكهن بها.‏


والعمل الحالي يهدف، بعد عرض موجز لنظرية شومسكي التوليدية التحويلية، إلى تناول أبرز التطبيقات التربوية ذات الصلة بها، وتبيان كيفية الإفادة منها في مجال تعليم لغتنا العربية.‏


نظرية شومسكي التوليدية التحويلية

قبل أن ينشر شومسكي كتاب البنى التركيبية عام 1957 كان يسود علم اللغة الاتجاه الوصفي الذي يهدف إلى تصنيف اللغات على أساس مكوناتها انطلاقاً من متن Corpus كل لغة، وهو مجموعة من النصوص المختارة من التراث المكتوب ومن اللغة الشفوية، ثم تصنف عناصر هذا المتن إلى مستوياته المختلفة: الوحدات الصوتية الصغرى ذات الدلالة الوظيفية (Phonemes)، التي تشكل العناصر الدالة الصغرى المحملة بالمعنى (Morphemes). وفي المستوى الأعلى تجتمع هذه العناصر لتشكل الكلمات وصفوف الكلمات كالمركبات الاسمية والمركبات الفعلية، ثم تأتي بعد ذلك تتابعات صفوف الكلمات، أي الجمل، وأنواع الجمل الممكنة.


إن مثل هذه المناهج في وصف اللغة بدت لشومسكي قاصرة، فهي، وإن تمتعت ظاهرياً بفعالية كبيرة في دراسة الفونيمات والمورفيمات، لا تتوافق جيداً مع دراسة الجمل. إن كل لغة طبيعية تملك عدداً محدداً من الفونيمات، ومن المورفيمات، وإن كان كبيراً جداً، ولكنها تملك عدداً لا متناهياً من الجمل التي يمكن إنشاؤها. والمناهج البنيوية غير قادرة على تحديد هذا العدد اللامتناهي، لأنها تقتصر على دراسة البنى السطحية للغة. ولكن البنية السطحية الواحدة قد تخفي تحتها بنى كامنة أو عميقة، وهنا يكمن عنصر أساسي من عناصر ثورة شومسكي اللغوية.‏


ولتوضيح البنيتين السطحية والعميقة نورد المثال التالي:‏


"تدريس النحو لا يؤدي الغاية منه". إن هذه البنية السطحية تبدو واضحة للوهلة الأولى، ولكنها تخفي تحتها بنى عميقة متعددة:‏



  1. تدريس النحو في المستوى ما قبل الجامعي لا يؤدي الغاية منه.‏
  2. تدريس النحو في المستوى الجامعي لا يؤدي الغاية منه.‏
  3. تدريس النحو في المستوى الجامعي للصف الأول لا يؤدي الغاية منه.‏
  4. تدريس النحو في المستوى الجامعي لشعبة من الصف الأول لا يؤدي الغاية منه.‏
  5. تدريس فلان النحو في المستوى الجامعي لا يؤدي الغاية منه.‏


وهذا النمط من التحليل على مستويين (الأكثر تجريداً من التحليل البنيوي الذي يقف عند حدود البنية السطحية (يخفف الالتباس النحوي ويعيد (باعتماد قواعد التحويل) كل جملة معقدة إلى عدد من الجمل البسيطة، كما رأينا.‏


لقد انتقد شومسكي بعنف التصور السلوكي للغة (الذي تأثر به كثيراً علم اللغة البنيوي) بأنها عادات تكتسب بالتكرار عبر آليات العلاقة بين المثير والاستجابة. فالذهن لا يمكن أن يكون كالصفحة البيضاء.‏


إن النحو التوليدي "نظام شكلي يتيح توليد جميع الجمل النحوية للغة ما (ولا شيء غير الجمل)، ومنح كل منها وصفاً بنيوياً"(2). وهذا النظام موروث، بمعنى أن الطفل يولد وهو "مزود بمعرفة تامة بالنحو الكلي أو الكوني، ونعني بذلك أنه مزود بمخطط مثبت يستخدمه (...) لاكتساب اللغة"(3) وهذا يعني أن الطفل يمكن أن يكتسب أية لغة إنسانية استناداً إلى معلومات ناقصة جداً، إنه يمتلك الأشكال العامة جداً المشتركة بين اللغات الإنسانية كلها، بوصفها جزءاً من تجهيزه العقلي الفطري(4). إن هذه الطاقة الهائلة في توليد جمل لا يمكن التكهن بها تحت تأثير المثيرات الخارجية، الخاصة بالإنسان وحده، هي ما أطلق عليه في نظرية شومسكي مصطلح الإبداعية اللغوية. ولم يبتعد ابن خلدون عن هذا المعنى حينما تحدث قبله بقرون عن ملكة اللسان.‏


هذا الحديث عن النحو التوليدي يقودنا إلى الحديث عن الكفاءة اللغوية (Competince Linguistique) التي تعني لدى شومسكي المعرفة الضمنية التي يمتلكها كل متحدث: مستمع عن لغته، وبتعبير أكثر تقنية، هي نظام مستبطن من القواعد يتيح للدماغ أن ينتج وأن يفهم عدداً لا متناهياً من الجمل. ووعي المتحدث بوجود كفاءته يظهر عندما يتساءل: إن كانت جملة ما نحوية أو غير نحوية(5)، كأن يدفعه حدسه مثلاً إلى رفض جملة: "استعرتك كتاباً".‏


واستعمال هذه الكفاءة اللغوية (عندما تنتج أو تفهم جمل فعلياً يشكل الأداء (Performance) اللغوي.‏


بقي أن نشير إلى أن النحو لدى شومسكي يضم، بالمعنى الفني الذي يعطيه لهذه الكلمة، ثلاثة أقسام: "القسم التركيبي الذي يولد ويشرح البنية الداخلية لعدد الجمل اللامتناهية في لغة معينة، والقسم الفونولوجي الذي يشرح البنية الصوتية للجمل التي ولدها المكون التركيبي، والقسم الدلالي الذي يشرح بنية معناها. ويحتل التركيب موضع القلب في هذا النحو، في حين تشكل الفونولوجيا ودراسة الدلالة مجرد قسمين "تأويليين، بمعنى أنهما يصفان صوت الجمل التي أنشأها التركيب ومعناها، بيد أنهما لا يولدان الجمل بحد ذاتها"(6).‏


بعض التطبيقات التربوية ذات الصلة بنظرية شومسكي:

إن كان شومسكي أكد وجود نظام موروث لتوليد النحو فإنه لم يقل: إن اللغة تظهر بشكل عفوي، وبغض النظر عن محيط الفرد. وهذا الأمر بدا واضحاً حينما تحدث شومسكي في كتابه: تأملات حول اللغة، الذي نشر عام 1971، وترجم إلى الفرنسية عام 1981، عن: "نظام آليات ومبادئ مستعملة في اكتساب اللغة- أي اكتساب البنية المعرفية النوعية التي نسميها "نحواً" انطلاقاً من معطيات تشكل "عينة" لهذه اللغة صحيحة وملائمة"(7).‏


إن المقصود إذاً وجود واستعمال بالضرورة لاستعداد فطري. "ولكن هذا الاستعداد لا يكون وظيفياً إلا مع تعريضه لمادة لغوية في حدها الأدنى. وما ينبغي أن يكون "عينة للغة صحيحة وملائمة" تتيح استعمالاً فعلياً لآلية الاكتساب يبقى مع ذلك غامضاً في نصوص شومسكي! إن هذا الأمر يفسر دون شك التناقض بين ندرة الطرائق التعليمية التي استوحت نظرية شومسكي مباشرة، والأثر الحاسم لهذه النظرية في تطور تعليم اللغات بصفة عامة: إن وجهة النظر الشومسكية الجديدة كلياً حول طبيعة اللغات كان لها آثار لا تقارن بها "التطبيقات" بالمعنى الدقيق"(8).‏


إن ما قدمته نظرية شومسكي لتعليم اللغات يقع بخاصة على مستوى التحليل اللغوي: فقد توصلت إلى فهم أفضل لطبيعة اللغة وعملها (واللغات بصفة عامة). إن النحو التوليدي التحويلي قادر على أن يشكل ويبين بشكل فعال خصائص للغة، يسعى النحو التقليدي لا علم اللغة البنيوي إلى تفسيرها. مثال ذلك إزالة التباس بعض الجمل الغامضة عبر التحليل إلى بنية سطحية وبنية عميقة (راجع المثال الذي أوردناه في الفقرة (2)." والنتيجة العملية، على المستوى المنهجي، للتمييز بين البنية السطحية والبنية العميقة هي الاهتمام بعدم تقديم جمل ذات بنى سطحية متماثلة وبنى عميقة متغايرة، في درس واحد، وعلى العكس يمكن أن نجد فائدة تربوية في توضيح التشابهات العميقة بين جمل ذات بنى سطحية متنوعة.‏


فالمنهجية التي تستوحي النظرية الشومسكية يتحتم عليها إذاً أن توضح القواعد الضمنية، التي لا يستطيع النحو التقليدي توضيحها. إن المقصود إذاً اتجاه عام على مستوى عال من التجريد في شرح القواعد، ينبغي أن يوسع إنمانيات بناء جمل نحوية، لا سيما الجمل المعقدة، وبعبارة أخرى، أن يشجع تطوير الكفاءة اللغوية في جميع الإبداعية للغة"(9).‏


لقد أبرزت هذه النظرية مشكلات تعلم (لا مشكلات تعليم) للغة شغلت علماء اللغة النفسيين خلال سنوات طويلة. فما يلفت الانتباه أن قسماً كبيراً من الأعمال التي كرست لتحليل الأخطاء رجعت إلى شومسكي أولاً، وذلك لأن أساليب "اكتشاف" عمل اللغة المستعملة خلال الاكتساب تتطابق مع ما قاله شومسكي: فالخطأ من وجهة النظر هذه وسيلة ممتازة للتعلم، بصفته اختباراً للفرضيات المتعلقة بهذا العمل(10). فما الذي قدمه تحليل الأخطاء لتعليم اللغات؟‏


تحليل الأخطاء وتحليل الأغلاط:‏

أصبح تحليل الأخطاء بدءاً من عام 1960 مرحلة مهمة من مراحل البحث في تعليم اللغات، وانفصل شيئاً فشيئاً عن الإطار الضيق لعلم اللغة التطبيقي.(11) ويميز العاملون في مجال التعليم بين الغلط (Faute) والخطأ (Erreur) وهذا التمييز يعكس التمييز الشومسكي بين الكفاءة اللغوية. فالأول ناجم عن الأداء، والثاني ناجم عن الكفاءة اللغوية. ويترتب على ذلك أن ليس في تعلم اللغة الأم أخطاء (Erreure) بل أغلاط. فالأخطاء من هذا المنظور مرتبطة بتعليم اللغة الأجنبية، وتحليل الأخطاء يرتبط مباشرة بهذا التعلّم. ووجود هذه الأخطاء يعكس قصوراً في كفاءة المتعلمين، في هذه اللغة (الكفاءة بالمعنى الشومسكي بالطبع)، أي في تمثّل النظام اللغوي.


ويميز آخرون بين أخطاء نظامية (Erreurs syste matiques) وأخطاء غير نظامية (Erreurs non syste matiques)، ويعيدون الأخطاء النظامية إلى نقص في الكفاءة اللغوية الانتقالية (Competence Transitoire) لمتعلم اللغة الأجنبية: "إن أخطاء الأداء ستكون، بالتعريف، أخطاء غير نظامية، وأخطاء الكفاءة ستكون أخطاء نظامية".(12) إن النظامية هنا لا تعني الشيوع أو الثبات بقدر ما يعني تمثيل نظام مستبطن. وعلى ذلك يكون الخطأ النظامي مرادفاً للخطأ الذي ذكرناه في البداية، ويكون الخطأ غير النظامي مرادفاً للغلط. ولكن التمييز بين الخطأ والغلط ليس سهلاً دائماً، إنه يحتاج إلى بحث أو إلى تحليل أخطاء أكثر عمقاً من الأبحاث المطبقة عادة.(13)‏


إن الأغلاط الناجمة عن اضطراب الأداء، في اللغة الأم، متعددة، وهي ناجمة غالباً عن اضطرابات في الذاكرة (ضعف أو نسيان)، أو زلات قلم أو لسان، أو حالات فيزيولوجية مختلفة كالتعب أو الإرهاق أو حالات نفسية معينة كالانفعال القوي.(14) والصفة التي يمكن أن نَسِمَ الغلط بها، على النحو الذي استنتجناه من كلام كوردر، هي ألا يثير مشكلات تأويل أو تفسير.(15) وعلى ذلك ينبني أن الجملتين التاليتين: "لم يبق سعيد في البيت طويلاً" و"إن في حديقة كليتنا شجرة يابسة" (برفع كلمتي شجرة ويابسة) لا تضمان أخطاء بل أغلاطاً، فالمعنى مبلّغ وليست هناك مشكلات تفسير على الرغم من عدم حذف الألف المقصورة في فعل الجملة الأولى، ورفع اسم إن وصفته في الجملة الثانية، في حين أن متعلماً أجنبياً للغة العربية يرتكب خطأ حين يقول: "زار جارُه خالداً"، معيداً الضمير إلى متأخر في اللفظ والرتبة، وهذا مخالف لنظام اللغة العربية.‏


إن أخطاء المتعلم المنتظمة تكشف، كما يقول كوردر، "عن النظام اللغوي الذي يستعمله (الذي تعلمه) في لحظة معينة من المنهاج الذي يدرسه (لنكرر هنا أنه يستعمل نظاماً، وإن لم يكن الجيد أيضاً). ولهذه الأخطاء ثلاثة معان: أولاً: إنها تحدد للمدرس المستوى الذي وصل إليه المتعلم بالنسبة إلى الهدف المنشود، وإذاً ما بقي عليه أن يتعلمه. ثانياً: إنها تزود الباحث بمؤشرات حول الطريقة التي تتعلم بها لغة ما أو تكتسب. ثالثاً: (وهذا هو الأهم بمعنى من المعاني): إنها ضرورية للمتعلم، لأننا نستطيع أن نعتبر الخطأ النظامي أسلوباً يستعمله المتعلم ليتعلّم. إن الخطأ بالنسبة إليه، طريقة للتحقق من فرضياته حول عمل اللغة التي يتعلمها."(16)‏


وإذا كان منهج تحليل الأخطاء الذي ارتبط بتعلم اللغات الأجنبية واعتبر متمماً للتحليل التقابلي أو بديلاً اقتصادياً عنه، قد أسهم جيداً في تطوير تعليم هذه اللغات، وتعديل مواقف التعلم والتعليم وتطبيقاتها، وتطوير محتوى برامج تكوين المدرسين وإعادة تأهيلهم، ووضع البرامج التعليمية الملائمة، فإن تحليل الأغلاط بخصوص اللغة الأم سيكون دون شك ذا أثر فعال في تحديد الأغلاط الأكثر شيوعاً لدى الطلبة على المستويين الشفوي والمكتوب، وبالتالي في تحديد ما ينبغي التركيز عليه أكثر من سواه في مقررات النحو النظرية والتطبيقية، أي في وضع مناهج النحو التربوي.‏



النحو العلمي والنحو التربوي:‏

إن فكرة النحو التربوي، بمعنى أو بآخر، قديمة من تاريخ تعليم اللغات. وفي مجال لغتنا العربية، نجد أول إشارة في رسالة خلف الأحمر البصري التي أسماها: مقدمة في النحو وقال فيها: "لما رأيت النحويين وأصحاب العربية أجمعين قد استعملوا التطويل وكثرة العلل، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتبلغ في النحو من المختصر والطرق العربية (...) أمعنت النظر في كتاب أؤلفه (...) ليستغني به المتعلم عن التطويل (...) مما يصلح لسانه في كتاب يكتبه أو شعر يُنشده أو خطبة يلقيها أو رسالة إن ألّفها."(17)‏


إنه يهدف إذاً إلى إعداد المختصر المفيد الذي يلبي حاجة المتعلم في الاستعمال الكتابي والشفوي للغة.‏


ولقد انتبه الجاحظ أيضاً إلى عدم جدوى تعليم النحو لذاته فقال: "وأما النحو فلا تشغل قلبه (أي الصبي) إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه، وما زاد على ذلك فهو مشغله عما هو أولى به..."(18).‏


واتجه ابن مالك الاتجاه نفسه في كتابه: التسهيل، وعنوانه يدل على مضمونه. وبلغ الأمر بابن مضاء القرطبي حد الثورة ضد النحاة في كتابه: الرد على النحاة، فدعا إلى إلغاء نظرية العامل، وفكرة التقدير، وحذف كل ما يستغني الإنسان عنه في نطق العرب بلغتهم.(19)‏


وتبلورت الدعوة في القرن العشرين إلى التجديد في النحو على يد إبراهيم مصطفى في كتابه إحياء النحو، 1937. وتلا ذلك تشكيل اللجان وعقد الندوات والمؤتمرات لتيسير تعليم النحو.‏


وفي العصر الحديث "تكونت في إطار علم اللغة التطبيقي وبمشاركة من التحويليين فكرة واضحة للتمييز بين النحو الشكلي أو العلمي من جانب، والنحو التعليمي أو التربوي من الجانب الآخر. ومنطلق هذا التمييز أن النقل المباشر لنتائج البحث اللغوي أو لمناهجه إلى تعليم اللغات يعد من الأخطاء، وذلك لأن النحو العلمي يقوم على نظرية لغوية تنشد الدقة في الوصف اللغوي وتتخذ لتحقيق ذلك أدق المناهج.(20)‏


إن النحو العلمي إذاً "يحصر أنماط الجمل النحوية في لغة ما ويقدم لكل منها وصفاً وتفسيراً"(21) أما النحو التربوي "فيركز على ما يحتاجه الدارس، ويختار المادة من مجموع ما يقدمه النحو العلمي، ويعدلها طبقاً لأهداف التعلم وظروف العملية التعليمية"، إنه "يقوم على أسس لغوية ونفسية وتربوية، وليس مجرد تلخيص للنحو العلمي".(22) إنه إذاً يسعى إلى تحسين كفاءة المتعلم اللغوية وأدائه اللغوي.‏


إن النحو التربوي أو العملي يتسم في رأي شومسكي بالسمات التالية:(23)‏


  1. إنه نمط خاص يتكون من مادة مختارة من النحو العلمي المفصل طبقاً لمعايير تتوخى السهولة والفائدة العلمية.‏
  2. إنه يقدم عرضاً مباشراً للبنية السطحية مع الإفادة في الوقت نفسه من الرؤية التحويلية.‏
  3. إنه يحذف قدراً كبيراً من المعلومات التفصيلية كي يناسب الاستخدام الوصفي.‏


وهو يرى أن النحو العلمي دقيق ومفصل، ولكنه أعقد من أن يكون مادة تعليمية صالحة. إن كتابه: نص تعليمي في النحو التحويلي "يفيد المتخصصين المتقنين للغة بهدف تأهيلهم في منهج البحث اللغوي، وذلك من أجل إعادة صياغة قواعد لغوية متمثلة بالفعل. وتكون الإفادة في النحو العلمي من الرؤية التحويلية في جوانب محددة، دون أن يأخذ المؤلف أو المدرس الجهاز المعقد للقواعد بكاملها، ولكن القواعد العلمية الدقيقة يمكن أن تكون كامنة خلف ما ندرسه في الفصل، ولكن لا يعبر عنها صراحة."(24)‏


إن النقد الذي يوجه إلى مؤلفي كتب النحو التقليدي هو أنهم "تصوروا أن تعليم اللغة يمكن أن يتم بالتطبيق الواعي للصياغات التجريدية، الأمر الذي أدى في حالات كثيرة إلى حفظ القواعد وهذه الأفكار تسيطر على فكر أكثر من اجتهدوا في الوطن العربي في تيسير النحو."(25)‏


إن النظرة الحديثة إلى النحو تتوجه إلى تطوير محتواه والتركيز على أهمية التدريبات النحوية التي تتجاوز الآلية إلى تنمية الكفاءة التواصلية.‏


الكفاءة اللغوية والكفاءة التواصلية:‏

سبق أن عرّفنا الكفاءة اللغوية من المنظور الشومسكي بأنها: المعارف الضمنية التي يمتلكها كل متحدث/ مستمع للغة ما، وتتيح له أن ينتج ويفهم عدداً لا محدوداً من جمل هذه اللغة. ولكن الكفاءة من هذا المنظور مسألة افتراضية، وشومسكي يصف من يتمتع بهذه الكفاءة بأنه متحدث/ مستمع مثالي، إن النص الحرفي لشومسكي هو التالي: "إن الموضوع الأول للنظرية اللغوية متحدث/ مستمع مثالي، منتم إلى جماعة لغوية متجانسة كلياً، يعرف بشكل كامل لغته، ولا يتأثر، حينما يطبق في أداء فعلي معرفته عن اللغة، بشروط غير ملائمة نحوياً، من مثل انحصار الذاكرة، والشرود، وانتقال الاهتمام أو الانتباه، والغلط (العابر أو المميز)"(26).‏


إن هذا النموذج المثالي ينطبق في اعتقادي على ما نسميه نحن العرب بالذي لا يلحن، إنه شخص يتقن لغته إتقاناً تاماً، ولا يلحن، بمعنى أنه لا يقع في أية هفوة أو غلط أياً كانت الظروف التي يعبر فيها.‏


وكفاءة هذا النموذج المثالي تتجلى في أدائه الشفوي والكتابي، إن الأداء كما عرّفناه سابقاً بالاستناد إلى المفهوم الشومسكي هو: تحقيق اللغة، تنفيذها فعلياً، نقلها إلى حيز الاستعمال الشفوي أو الكتابي. ولكن الأداء أيضاً على وجهين: تواصلي، يتجلى في استعمال اللغة للتعامل مع الآخرين للتفاهم وقضاء الحاجات، وغير تواصلي، يتجلى في وصف اللغة والحديث عنها والبحث في قواعدها ونظامها. ومن البدهي أن يركز تعليم اللغات على الجانب الأول: التواصلي، لأنه الهدف من استعمال اللغة، أما الثاني فهو لا يخص إلا فئة قليلة من المتخصصين المتعمقين في دراستها واكتشاف قوانينها وطبيعة عملها.‏


وعلى أساس من هدف استعمال اللغة وسيلة للتواصل بدأ الحديث، وبتأثير من النظرية التحويلية عن الكفاءة التواصلية، فما المقصود بهذه الكفاءة؟ لقد جاء في معجم تعليم اللغات حول هذه الكفاءة أنها: "مفهوم يمثل معارضة وتوسيعاً للمفهوم الشومسكي للكفاءة. إن هيمس (Hymes) يحدد تحت عبارة كفاءة التواصل، المعرفة (العملية لا الظاهرة بالضرورة) للقواعد النفسية والثقافية والاجتماعية التي توجه استعمال الكلام في إطار اجتماعي. إن عملية الاستخدام الاجتماعي للغة (التي درسها برنشتاين Bernestin على سبيل المثال) تتكون في جزء منها من الاكتساب المتدرج لهذه الكفاءة التواصلية التي تكمل بالضرورة الكفاءة النحوية للشخص المتكلم. إن الكفاءة التواصلية تقتضي امتلاك الأنظمة والتغيرات اللغوية الاجتماعية، ومعايير الانتقال من نظام أو تغير إلى آخر: إنها تتطلب أيضاً معرفة عملية فيما يخص الأعراف التعبيرية المستعملة في جماعة معينة".(27)‏


إن الكفاءة التواصلية تعني باختصار امتلاك قدر معين من قواعد لغة ما (قواعد متمثلة بالطبع، أي مستبطنة) تمكن مستعمل هذه اللغة (سواء أكان من أبنائها أم من غيرهم) من الاتصال المثمر مع أبنائها، فهماً وإفهاماً بما يتفق مع الأعراف التعبيرية السائدة في الجماعة اللغوية.‏


إن الأداء اللغوي يتجلى إذاً في جانب كبير منه عبر الكفاءة التواصلية، وإذا كان من المفترض أن أبناء اللغة يكتسبون هذه الكفاءة في مرحلة مبكرة من تعلمهم لغتهم الأم، فإن ذلك ينطبق، فيما يخص لغتنا العربية، على التواصل بالعامية، وهو تواصل يفترض أن يكون محصوراً (وهذا خيار من فرض عليه الخيار) في الحياة العامة واللارسمية. أما ضمن مؤسساتنا التعليمية، سواء أكانت مدارس أم جامعات، فإن التواصل ينبغي أن يتم باللغة الفصحى: لغتنا الرسمية والقومية معاً. ولكن الواقع يثبت خلال ذلك في حالات كثيرة، على الصعيد الشفوي بالطبع، ولسنا هنا في معرض الحديث عن الشواهد.‏


نخلص إذاً إلى أن التواصل باللغة الفصحى(28) يكاد يقتصر على مواقف محدودة، محصورة في الجانب المكتوب منها (أي ما يتعلق بالقراءة والكتابة)، أما الجانب الشفوي (أي الاستماع والتحدث) فهو في معظم الحالات يتم بالعامية. ولكننا نلاحظ أن تلاميذنا وطلبتنا، حتى على هذا المستوى المكتوب الضيق لا يعبرون إجمالاً في أدائهم عن كفاءة لغوية متقنة في المفهوم الشومسكي المثالي، ولا حتى الواقعي. لنسلم إذاً بأن هذا النموذج المثالي (وهو مصدر النحو العلمي)، غير موجود في واقعنا، فنحن جميعاً (أعني بذلك الأساتذة والمتخصصين وعلى المستوى الجامعي بالذات) لا نمثل النموذج المثالي، وإنما نمثل نموذجاً واقعياً، معرضاً لأن يقع في زلة لسان أو سهو أو شرود أو بلبلة ذاكرة، ولكنه ينتبه إلى أنه وقع في ذلك ويصحح نفسه مباشرة في غالب الأحيان. وهذا معيار الإتقان الواقعي للكفاءة اللغوية في رأيي.‏



الإفادة من التطبيقات التربوية لنظرية شومسكي في تعليم اللغة العربية

إن اللغة العربية لسان حضارتنا، ووعاء ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، بها دونت كنوزنا الفكرية والأدبية والعلمية والدينية، وبها ننقل مشاعرنا وأحاسيسنا وخلجات نفوسنا، ومن خلالها نعبر عن فِكرنا، ونقضي حاجاتنا، ونتواصل مع سوانا.‏


إنها إذاً أوثق رابطة تؤلف بين من يتكلمونها وتجعل منهم أمة، فتميزهم عن سواهم من الأمم. ومن هنا يكون الحفاظ عليها، وتيسير تعلمها، وتمكين أبنائها من ناصيتها، والإفادة من كل جديد ومتطور في ميدان تعليم اللغات لتطوير تعلمها وتعليمها واجباً على كل من يتكلم بها، أفراداً ومؤسسات، وإن كان دور المؤسسات أعظم وأجدى.‏


والإفادة من الرياح التي تهب من الغرب محملة بكل متطور ومستحدث لن يضيرنا إن أخذنا منه ما يناسب واقعنا وينسجم مع التطوير الذي نحن بحاجة إليه، لنبقي لغتنا متطورة ملبية متطلبات التحديث والعصرنة.‏


ومن هذا المطلق نمد يدنا نحو الشومسكية بصفتها نظرية في اللغة طمحت إلى تكون عامة وشاملة، وتركت بصماتها عميقة على مسيرة البحث اللغوي.‏


إن الإفادة من التطبيقات التربوية لنظرية شومسكي التوليدية التحويلية تفتح آفاقنا في اتجاه:‏



  • التركيز على المتعلم باعتباره محور العملية التعليمية التعلمية، والاتجاهات الحديثة في التربية وعلم النفس تشارك الشومسكية هذه النظرة. إن ذلك يقتضي إذاً تحديد حاجاته في مجال تعلمه (وهو النحو هنا) وتلبيتها.‏
  • السعي إلى تطوير محتوى كتب النحو والتركيز على التدريبات النحوية التي تتجاوز التطبيق الآلي للمعرفة إلى تنمية الكفاءة التواصلية.‏
  • التركيز على النحو التربوي، أي ذلك القدر الأساسي من قواعد اللغة الذي يحتاجه الدارس طبقاً لأهداف التعلم، وظروف العملية التعليمية التعلمية.‏


إن ميزة النحو التربوي أنه يحذف قدراً كبيراً من المعلومات التفصيلية، ويقتصر على المظهر المطرد للقاعدة، وعلى القواعد الوظيفية التي تلبي حاجات المتعلمين في استعمال اللغة.‏



  • تحديد مفردات النحو التربوي. وذلك يقتضي فيما يقتضيه:‏



  1. تحديداً واضحاً للأهداف التي نتوخاها من تكوين الطالب الجامعي.‏
  2. دراسات علمية معمقة للأغلاط التي يقع فيها الطلاب في أدائهم اللغوي شفوياً كان أم كتابياً، وتحديد الأكثر شيوعاً لديهم، ثم تحديد الأبحاث النحوية المتعلقة بها، وتحديد المفاهيم المناسبة (وهذه الدراسات من مهمات كليات التربية عموماً).‏
  3. دراسات علمية لأساليب الاستعمال اللغوي الأكثر انتشاراً في المجالات التي سيخرج الطالب إلى العمل فيها وتحليل عينات منها وتحديد القواعد الأكثر انتشاراً فيها، ودراسات علمية لتحديد حاجات الطلاب من القواعد.‏
  4. تحديد طرائق التدريس المناسبة.‏
  5. تحديد إجراءات التقويم في ضوء الأهداف الموضوعة.‏


ومن الجميل أن نذكر هنا ما أكده فون هومبولت (Von Homboldt) بخصوص تعلم اللغة، وقد جاء على لسان كوردر (Corder) كما يلي:‏


"إننا نستطيع في الواقع أن نعلم لغة، بل فقط نخلق الشروط الملائمة لكي تتطور عفوياً في الدماغ. ولكي نحسن قدرتنا على خلق هذه الشروط الملائمة يلزمنا أن نعرف كثيراً عن الطريقة التي يتعلم بها متعلم، وعن طبيعة برنامجه الداخلي.(29) وعند ذاك قد يكون باستطاعتنا أن نعيد النظر في مفاهيم ما زلنا نتعلق بها(30). إن الدراسة النظامية لأخطاء المتعلمين يفترض أن تساعدنا على ذلك. وقد نستطيع عند ذلك أن نتيح لاستراتيجيات المتعلم الفطرية توجيه عملنا، وتحديد برنامجنا التعليمي. وربما استطعنا أن نعرف بهذا الشكل كيف نتكيف مع حاجاته بدلاً من أن نفرض عليه أفكارنا المسبقة حول الطريقة التي ينبغي له أن يتعلم بها، وما ينبغي له أن يتعلم، ومتى ينبغي به أن يتعلم ذلك"(31).‏


خاتمة:‏

فيما سبق قدمنا نظرية وسمت بشدة تاريخ البحث اللغوي في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أثارت هذه النظرية التي تألفت في العقدين السادس والسابع، العديد من الأبحاث التربوية في مجال تعليم اللغات، كان أبرزها ما يرتبط بتحليل الأخطاء والنحو التربوي، وإذا كانت هذه النظرية أعطت للاتصال دوراً هامشياً، فبرزت بذلك إحدى نقاط ضعفها، فإن الأمر ذاته دفع الباحثين اللغويين والعاملين في ميدان تعليم اللغات الخاصة إلى التركيز على مفهوم الكفاءة التواصلية التي بدت معارضة وتوسيعاً، وبالنتيجة امتداداً طبيعياً للنظرية التوليدية التحويلية.‏


لقد فتحت التطبيقات التربوية لهذه النظرية مجالاً واسعاً لتطوير تعليم اللغات، ولا يشذ ميدان لغتنا العربية عن ميادين اللغات الطبيعية. ويترتب على ذلك أن الإفادة من هذه التطبيقات التربوية ينبغي أن تمتد إلى لغتنا العربية التي يقع على عاتقنا- نحن أبناءها- العبء الأساسي في تطوير تعليمها وتعلمها، وتمكين المتعلمين من استعمالها في صورتها الفصحى وسيلة للتواصل الشفوي والكتابي بأقل من الأغلاط. وهنا لبّ الموضوع، وجوهر المسألة.‏


الهوامش والمراجع:‏

(1)-شومسكي مذكوراً في: جون سيرل: "شومسكي والثورة اللغوية"، مجلة الفكر العربي، العدد المزدوج 8-9، 1979.‏


(2)-Galisson, R.; Coste D. (1976): Dictionaire de Didactique des Langues, Hachette, Paris P.245.


(3)-المرجع رقم 1، ص 136.‏


(4)-المرجع السابق نفسه، ص 136.‏


(5)-المرجع 2، ص.ص 105-106.‏


(6)-المرجع رقم 1، ص 128.‏


(7)-شومسكي مذكوراً في:‏


-Gaonah, D.: Theories d’Apprentissge et Acquisition d’une Langue Etrangere, Credif. Hatier, 1987, P.104.


(8)-المرجع رقم 7، ص 104.‏


(9)-المرجع السابق، ص.ص 105-106.‏


(10)-المرجع السابق، ص.ص 106-107.‏


(11)-Besse, H.; Porquier, R. (1986): Grammaires et Didactique des Langes, Hatier, Paris, P.206.


(12)-Corder S. Pit (1980): “Que Signifient les Erreurs des Apprenants’, Traduction Francise, dans la enue: Language, N 57, Paris, P.13.


(13)-المرجع السابق، ص 13.‏


(14)-المرجع نفسه، ص 13.‏


(15)-المرجع نفسه، ص 21.‏


(16)-المرجع نفسه، ص 13.‏


(17)-خلف بن حيان البصري: مقدمة في النحو، طبعة إحياء التراث القديم بوزارة الثقافة، دمشق، 1961، ص.ص 33-34.‏


(18)-الجاحظ، مذكوراً في السيد، محمود (1988): في طرائق تدريس اللغة العربية، جامعة دمشق، ص 463.‏


(19)-المرجع السابق نفسه، ص 464.‏


(20)-حجازي، محمود فهمي (1992): "النظريات الحديثة في علم اللغة وتطبيقاتها على المستوى الجامعي"، مجلة التعريب، دمشق، ص 78.‏


(21)-المرجع السابق، ص 79.‏


(22)-المرجع نفسه، ص 78.‏


(23)-المرجع نفسه، ص 79.‏


(24)-المرجع نفسه، ص 79.‏


(25)-المرجع نفسه، ص.ص 79-80.‏


(26)-Chomsky, Cite par: Hymes, Dell H.: Vers la Competence de Communication, Traduction Francaise, 1984, P.22.


(27)-المرجع رقم 2، ص 106.‏


(28)-من أجل دراسة مفصلة عن أشكال اللغة العربية واستعمالاتها ومهاراتها، راجع بحثنا الذي نشرته: مجلة دراسات تربوية في عددها الأول لعام 1993 بعنوان: "نحو تحليل معمق لمهارات اللغة العربية يعزز الكفاءة التواصلية لدى المتعلم العربي". ص.ص 114-131.‏


(29)-هذه العبارة تشير إلى ما ذكرناه في الفقرة (2)، وهو أن الطفل، تبعاً للنظرية الشومسكية يولد مزوداً بمخطط مثبت عن اللغة، أي ببرنامج داخلي يستخدمه لاكتساب اللغة.‏


(30)-الأخطاء النظامية فيما يخص اللغة الأجنبية والأغلاط الشائعة فيما يخص اللغة الأم.‏


(31)-المرجع رقم 12، ص 15.‏


  دراسة: د.سام عمّار

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
ADMIN

عدد المقالات:

شاهد ايضا × +
إظهار التعليقات